فصل: الإيضاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال المراغي:

سورة التكاثر:
هي مكية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة الكوثر.
ومناسبتها لما قبلها- أن في الأولى وصف القيامة وبعض أهوالها وجزاء الأخيار والأشرار، وأن في هذه ذكر الجحيم وهى الهاوية التي ذكرت في السورة السابقة، وذكر السؤال عما قدم المرء من الأعمال في الحياة الدنيا، وهذا بعض أحوال الآخرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة التكاثر (102): الآيات 1- 8]
{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}

.شرح المفردات:

اللهو: ما يشغل الإنسان، سواء أكان مما يسرّ أم لا، ثم خص بما يشغل مما فيه سرور وإذا ألهى المرء بشيء فهو غافل به عما سواه، والتكاثر: التباهي بالكثرة بأن يقول كل للآخر أنا أكثر منك مالا، أنا أكثر منك ولدا، أنا أكثر منك رجال ضرب وحرب، حتى زرتم المقابر: أي حتى صرتم من الموتى، قال جرير:
زار القبور أبو مالك ** فأصبح ألأم زوّارها

علم اليقين: أي علم الأمر الميقون الموثوق به، والجحيم: دار العذاب. عين اليقين: أي عين هي اليقين نفسه.

.أسباب نزول السورة:

أخرج ابن أبى حاتم عن أبى بريدة قال: نزلت {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ}في قبيلتين من الأنصار وهما بنو حارثة وبنو الحرث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت أحداهما:
أفيكم مثل فلان وفلان؟ وقالت الأخرى: مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء ثم قالوا:
انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: أفيكم مثل فلان وتشير إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل اللّه هذه السورة.

.الإيضاح:

{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ}
أي شغلكم التفاخر والتباهي بكثرة الأنصار والأشياع، وصرفكم ذلك عن الجد في العمل، فكنتم في لهو بالقول عن الفعل، وفى غرور وإعجاب بالآباء والأعوان، وصرفكم ذلك عن توجيه قواكم إلى العمل بما فرض عليكم من الأعمال لأنفسكم وأهليكم، وما زال ذلك ديدنكم ودأبكم الذي سرتم عليه.
وفى صحيح مسلم عن مطرّف عن أبيه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر قال: يقول ابن آدم مالى ومالك، يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس»
وروى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان: ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب اللّه على من تاب».
قال الأستاذ الإمام: وقد يكون معنى التكاثر التغالب في الكثرة، أي طلب كل واحد منهما أن يكون أكثر من الآخر مالا أو جاها، والسعى إلى ذلك لمجرد المغالبة، لا يبغي الساعي في سعيه إلا أن يكون ماله أكثر من مال الآخر، أو أن يكون عضده أقوى من عضده، لينال بذلك لذة التعلى والظهور بالقوة كما هو شأن الجمهور الغالب من طلاب الثروة والقوة، ولا ينظر الدائب منهم في عمله إلى تلك الغاية الرفيعة غاية البذل مما يكسب في سبل الخير، أو النهوض بالقوة إلى نصر الحق، وحمل المبطلين على معرفته والتوجه إليه، ثم المحافظة بعد ذلك عليه.
وهذا معنى معقول ذهب إليه بعض المفسرين، وهو يتفق كل الاتفاق مع ما يفهم من لفظ {أَلْهاكُمُ} فإن الذي يلهى الناس عن الحق في كل حال، ويصرف وجوههم عنه إلى الباطل: هو طمع كل واحد منهم أن يكون أكثر من الآخر مالا أو عدد رجال، ليعلو عليه، أو ليستخدمه لسلطانه، بقدر ما يدخل في إمكانه، أما التفاخر بالأقوال فإنما يلهيهم في بعض الأحوال. اهـ.
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ} أي حتى هلكتم وصرتم من الموتى، فأضعتم أعماركم فيما لا يجدى فائدة، ولا يعود عليكم بمائدة، في حياتكم الباقية الخالدة.
قال العلماء: إن زيارة القبور من أعظم الدواء للقلب القاسي، لأنها تذكر بالموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها،
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهّد في الدنيا وتذكركم الآخرة».
كما لا خلاف في منع زيارتها إذا حدث في ذلك منكرات وأشياء مما نهى عنه الدين كاختلاط الرجال بالنساء وحدوث فتن لا تحمد عقباها.
ثم نبههم إلى خطإ ما هم فيه، وزجرهم عن البقاء على تلك الحال التي لها وخيم العاقبة فقال: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي ازدجروا عن مثل هذا العمل الذي لا تكون عاقبته إلا القطيعة والهجران، والضغينة والأحقاد، والجئوا إلى التناصر على الحق، والتكاثف على أعمال البر، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات، من تقويم الأخلاق، وتطهير الأعراق، وإنكم سوف تعلمون عاقبة ما أنتم فيه من التكاثر إذا استمر بكم هذا التفاخر بالباطل بدون عمل صحيح نافع لكم في العقبى.
ثم أكد هذا وزاد في التهديد فقال: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وهذا وعيد بعد وعيد في مقام الزجر والتوبيخ كما يقول السيد لعبده: أقول لك لا تفعل، ثم أقول لك لا تفعل.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أي ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال، وإنّ ما تدعونه علما ليس في الحقيقة بعلم، وإنما هو وهم وظن لا يلبث أن يتغير، لأنه لا يطابق الواقع، والجدير بأن يسمى علما هو علم اليقين المطابق للواقع، بناء على العيان والحس، أو الدليل الصحيح الذي يؤيده العقل، أو النقل الصحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وإنما ذكر سبحانه هذا زيادة في زجرهم لتغريرهم بأنفسهم، فقد جرت عادة الغافلين أنهم إذ ذكّروا بعواقب حالهم أن يقولوا: إنهم يعلمون العواقب، وأنهم في منتهى اليقظة وسداد الفكرة.
ثم ذكر لهم بعض ما ينهى إليه هذا اللهو، وهو عذاب الآخرة بعد خزى الدنيا فقال: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} أي إن دار العذاب التي أعدت لمن يلهو عن الحق لا ريب فيها ولترونّها بأعينكم، فاجعلوا صورة عذابها حاضرة في أذهانكم، لتنبهكم إلى ما هو خير لكم مما تلهون به.
والمراد برؤية الجحيم ذوق عذابها، وهذا استعمال شائع في الكتاب الكريم.
ثم كرر ذلك للتأكيد فقال: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ} أي لترونها رؤية هي اليقين نفسه، إلى أي دين أو إلى أي شخص كانت نسبتكم فلتتقوا اللّه ربكم، ولتنتهوا عما يقذف بكم فيها، ولتنظروا إلى ما أنتم فيه من نعمة، ولترعوا حق اللّه فيها، فاستعملوها فيما أمر أن تستعمل فيه، ولا تجترحوا السيئات وتقترفوا المنكرات، إنكم لتمنون أنفسكم بأنكم ممن يعفو اللّه عنهم، ويزحزحهم من النار بمجرد نسبتكم إلى الدين الإسلامى وتلقيبكم بألقابه، مع مخالفتكم أحكام القرآن وعملكم عمل أعداء الإسلام.
ثم شدد عليهم وزاد في تأنيبهم فقال: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أي إن هذا النعيم الذي تتفاخرون به وتعدونه مما يباهى بعضكم بعضا- ستسألون عنه- ماذا صنعتم به؟ هل أديتم حق اللّه فيه.
وراعيتم حدود أحكامه في التمتع به، فإن لم تفعلوا ذلك كان هذا النعيم غاية الشقاء في دار البقاء.
روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «أىّ نعيم نسأل عنه يا رسول اللّه، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ظلال المساكن والأشجار، والأخبية التي تقيكم الحر والبرد، والماء البارد في اليوم الحار».
وروى أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».
اللهم وفقا لشكر نعمتك وأداء حقها، لنجد الجواب حاضرا حين سؤالنا عنها، اللهم آمين.

.قال دروزة:

سورة التكاثر:
في السورة تنديد بالمستغرقين في الدنيا ومالها ونعيمها. وإنذار لهم بالآخرة. وهي عامة العرض والتوجيه. وقد روي أنها مدنية. وأسلوبها ومضمونها يحمل على الشك في ذلك. وقد سلكتها التراتيب المروية في سلك السور المكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة التكاثر: الآيات 1- 8]
{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}
(1) {التكاثر}: المباراة في الاستكثار من المال والبنين والتفاخر بذلك.
(2) {زرتم المقابر}: كناية عن الموت حيث يؤتى بالأموات فيدفنون في المقابر.
(3) {الجحيم}: النار المتقدة أو المتأججة.
في آيات السورة:
1- تنديد موجه إلى السامعين بما هم فيه من المباراة في الاستكثار من الأموال والأولاد والتفاخر بذلك واستغراقهم بسبب ذلك استغراقا يمنعهم من التفكير في الموت وما بعده، بحيث لا ينتهون مما هم فيه إلّا حين يموتون.
2- وتنبيه وتبصير لهم. فإنهم سوف يعلمون علما يقينيا بأنهم مخطئون، وأنهم سوف يرون الجحيم الموعودة ويرون بعين اليقين ما أوعدوا به. وأنهم سوف يسألون عن أعمالهم وما قضوه في الدنيا من حياة النعيم التي ألهتهم عن الآخرة والتفكير فيها.
ولقد روى بعض المفسرين روايات عديدة في نزول السورة. منها أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخرتا فيما بينهما بما عندهما من مال وما هما فيه من نعيم. ومنها أنها نزلت في فريق من اليهود فخروا على المسلمين بما كان عندهم من مال. ومنها أنها نزلت في حيين من قريش هما بنو مناف وبنو سهم تفاخرا فيما بينهما بما عندهما من مال. ولم ترد هذه الروايات في كتب الصحاح.
والروايتان الأوليان تقتضيان أن تكون السورة مدنية مع أن رواة النزول وجمهور المفسرين يسلكونها في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وأسلوبها ومضمونها يحملان على الشك في الروايتين وفي رواية تفاخر بني سهم ومناف القرشيين أيضا ويسوغان الترجيح بأنها مطلقة التوجيه عامة الإنذار والتنبيه مثل سور العاديات والعصر والأعلى والليل والفجر إلخ.
ولقد احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى. ومتسقا مع التلقينات التي احتوتها السور المماثلة السابقة وهو وجوب تنبيه الناس إلى واجباتهم نحو اللّه ونحو الناس في الحياة الدنيا وعدم الاندفاع في الاستكثار من المال والاستغراق في النعيم وجعل شهوات الحياة ونعيمها قصارى الهمّ والمطلب.
ولقد رويت بضعة أحاديث نبوية على هامش هذه السورة. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد اللّه بن الشخير قال: «إنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ} قال يقول ابن آدم مالي مالي. وهل لك من مالك إلّا ما تصدّقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت»..
وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام قال: «لما نزلت {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قلت يا رسول اللّه فأيّ النعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء. قال أما إنّه سيكون». حيث يتسق التلقين النبوي مع ما نوهنا به من التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو الشأن في كل أمر آخر.
وننبه مع ذلك على ضوء آيات سورة الأعراف [31- 33] التي أوردناها في مناسبة مماثلة في تفسير سورة الأعلى أن روح الآيات تلهم أن التنديد والتنبيه موجهان إلى من تلهيه أمواله وأولاده وشهواته ومتعه عن واجباته نحو ربه ونحو الناس ويستغرق في ذلك استغراقا يملك عليه تفكيره ويعمي بصيرته ويجعله لا يحسب للعواقب حسابا ويوهمه بأنه في أمن دائم. لا إلى أصحاب الأموال والأولاد والمتنعمين إطلاقا إذا ما أدوا حق اللّه بالإيمان به وعبادته وشكره وحق الناس بالبر والتزموا القصد والاعتدال. وليس في الأحاديث النبوية ما يتناقض مع ذلك. بل هناك أحاديث ينطوي فيها هذا بصراحة أوردناها في سياق تفسير سورة الفجر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

(102) سورة التكاثر:
نزولها: مكية.
نزلت بعد سورة (الكوثر).
عدد آياتها: ثمانى آيات.
عدد كلماتها: ثمان وعشرون كلمة.
عدد حروفها: مائة وعشرون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
الحديث في هذه السورة، متصل بما قبلها من الحديث عن القيامة، وعما يذهل الناس عنها، ويشغلهم عن الإعداد لها.. وهو المال والتكاثر منه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات (8- 1) [سورة التكاثر (102): الآيات 1- 8]
{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}
التفسير:
قوله تعالى: {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ}..أي أيها الناس، قد شغلكم التكاثر في الأموال والمتاع، فقطعتم حياتكم في جمع المال وكنزه، وفى تحصيل الجاه والسلطان، دون أن تلفتوا إلى ما يجمّل العقل، ويغذى الروح، ويكمل النفس.. {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ} أي نزلتم في قبوركم، وإنها ليست دار مقام لكم، وإنما هي إلمامة تلمّون بها، أشبه بالزائر يطرق مكانا، ثم يرحل عنه. وهكذا أنتم في هذه القبور التي ستضمكم يوما.. إنها زورة، ثم تحوّلون عنها إلى الحياة الآخرة.. إنها منزل على الطريق إلى البعث، والحساب والجزاء..
فالخطاب هنا عام للناس جميعا، والمؤمنون منهم أولى بهذا الخطاب من غيرهم، إذ كان يرجى منهم أن ينتفعوا به، وأن ينظروا إلى أنفسهم نظرا مجدّدا على ضوئه.
وقوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}.
وكلا، فليس هذا هو الموقف السليم الذي ينبغى أن يقفه الإنسان في الحياة، وليس هو الطريق القويم الذي يحق له أن يسلكه.. فإن جمع المال للتلهى به، وإشباع شهوات النفس منه، وإرضاء غرورها بالتعالي والتشامخ على الناس، لا لكسب محمدة، أو قضاء حق للّه أو للناس- هو ضلال ووبال.. وستعلمون حقيقة هذا لو أنكم نظرتم نظرا عاقلا مستبصرا، ثم كلا.. إنكم لم تحسنوا النظر، ولم تمعنوا الفكر، فما زال علمكم بما أنتم عليه من ضلال، علما لا يحرك شعورا، ولا يثير خاطرا، ولا ينزع بكم إلى أخذ اتجاه غير اتجاهكم.. فأعيدوا النظر، وجددوا البحث في حالكم تلك، وسوف تعلمون.. وكلا.. فهذا العلم الجديد الذي علمتموه لا يعدّ علما، فما زلتم في شك وريب من البعث والحساب والجزاء، ولو كان علما عن يقين، لتغير حالكم، ولما كان هذا موقفكم في الحياة..
فلو كنتم تعلمون علم اليقين {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ}، وأنتم في هذه الدنيا، ولعلتم أن العذاب هو جزاء أهل الضلال، وأن العاقل ليرى جهنم في الدنيا وكأنها ماثلة بين عينيه، فيتوقاها بالإيمان باللّه، والعمل الصالح، ويخاف مقام ربه، ويخشى لقاءه بما يجنى من منكرات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (18: فاطر).
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ} أي لرأيتم الجحيم في الدنيا رؤية علمية يدلكم عليها العقل، فكأنها ماثلة بين أعينكم.. ثم إنكم بعد ذلك: {لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ} أي رؤية بصرية، واقعية، حيث يشهدها كل من في المحشر، ويراها رأى العين، كما يقول سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} (71: مريم) وكما يقول شأنه: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يرى} (36: النازعات) وتوكيد جواب {لو} هنا لتحقق وقوعه مستقبلا..
وذلك لأن {لو} حرف يمتنع جوابها لامتناع شرطها.. وذلك محقق في الماضي، لأن الشرط لم يقع، فامتنع لذلك وقوع الجواب..
فإذا جاء الشرط والجواب مضارعين، كان الحكم معلقا، فقد يقع الشرط فيقع تبعا لذلك الجواب، وقد لا يقع الشرط فلا يقع الجواب.. تقول لو جاء الضيف لأكرمته.. وهذا يعنى أن الضيف لم يجئ وبالتالى لم يقع إكرامه..
وتقول لو يجيء الضيف لأكرمنّه.. فالضيف لم يجئ بعد، وقد يجيء، فإذا جاء لم يكن بدّ من إكرامه.. والتوكيد للفعل هنا واجب، لأنه حلّ محل فعل غلب أن يكون ممتنعا وقوعه، وهو جواب لو الماضي الذي يجيء أكثر ما يجيء فعلا ماضيا، فلزم توكيد الجواب هنا، ليقطع كل احتمال لامتناع وقوعه.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
أي ثم إذ ترون الجحيم في المحشر، تحاسبون على ما أنعم اللّه به عليكم من نعم، وأجلّها العقل، والرسول، والقرآن.. فمن رعى هذه النعم، وأدى واجب الشكر عليها، نجا من هذه النار، ونزل منازل المؤمنين في الجنة، ومن كفر يهذه النعم، حرم نعيم الجنة، وألقى به في عذاب الجحيم. اهـ.